Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace

«السيوف السلطانية».. ننشر فصلاً من الرواية الجديدة للأديب محمد العون

 كتب:  العاصمة
 
«السيوف السلطانية».. ننشر فصلاً من الرواية الجديدة للأديب محمد العون
الأديب محمد العون
Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace

سار راكبا جواده في الصباح الباكر وحوله فرسانه ومماليكه متجها إلى القلعة ، المسافة ليست طويلة من بيته في الرميلة لكنه يقطعها متمهلا فى وقار يليق بمكانته الكبرى في الدولة ، سكن هذا البيت منذ أيام بعد أن تولى وظيفته الأخيرة ، بيت يقع على مساحة كبيرة من الأرض ، يضم القصر الذي يعيش فيه مع حريمه وسراريه وخدمه وعبيده ، وبالقرب منه مساكن مماليكه السبعمائة وكلهم من مشترواته ، رباهم منذ طفولتهم وأنشأهم على الفروسية وفنون الحرب واستعمال السلاح ، السيف والرمح والطبر والرمي بالنشاب ، وعلى تعاليم الإسلام واللغة العربية ، تماما كما نشأ هو وتربى ، وفي المنطقة الخلفيه الواسعة توجد الاسطبلات التى تحوى مئات الخيول والأفراس.


يعيش فى هذا البيت بحكم وظيفته لكنه لا يملكه ! البيت ملك للسلطان ، بناه أحد السلاطين السابقين بالقرب من القلعة ليكون مسكنا لقائد الجيش ، قبل هذا كان يسكن فى بيت مطل على النيل فى مكان بعيد عن حي الرميلة ، أحب النيل منذ أن رآه لأول مرة ، كان لا يزال طفلا مجلوبا ، لم ير مثيلا له فى بلاد الترك البعيدة الواقعة في أقاصي السهول الأسيوية والتى أتى منها ، ولا فى البلاد التى مر بها خلال رحلته الطويلة إلى مصر ، رأى وعبر أنهارا عدة لا تقارن بهذا النهر الهائل فى مساحته واتساع صفحته ، عندما كبر في هذا البلد وتعلم لغته عرف أن العامة يسمونه البحر.


أتابك العسكر وقائد الجيش ، وظيفته التي تمنحه لقب أمير كبير ، هو مدبر المملكة ومُسير شئونها ، السلطان الشاب لا يقطع أمرا كبيرا أو صغيرا دون مشورته ، الأمر ليس باختيار السلطان الذى بدأ الحكم وهو فى سن الطفولة لا يملك حينها من أمره شيئا ، أصبح الآن شابا وترشد منذ عدة سنوات لكن الأمراء الكبار يشكلون حلقة حوله لا يمكن له اختراقها والنفاذ منها إلى السلطة ، يتركونه يعيش منعما فى قصره بالقلعة بين زوجاته وجواريه ويمسكون هم بزمام الأمور وشئون الحكم ، السلطان الشاب لا يستطيع أن ينكر أنه صاحب الفضل عليه ، أعاده إلى كرسى المُلك بعد عزله ، أو بالأحرى بعد أن عزل نفسه وترك السلطنة برغبته قهرا وضيقا من صراع الأمراء واستبدادهم بالأمر دونه ، وقتها لم يكن هو موجودا ليضبط الأمور ويسيطر على جموح الأمراء وأطماعهم التى لا تنتهي .. كان في السجن بثغر الإسكندرية !


نظر على شماله من فوق صهوة الجواد نحو حي الصليبة ، هناك وعلى مبعدة من الطريق الذى يسير عليه بنى مسجده ومدرسته عند سويقة منعم ، اشترى أملاكا ومبان بخط صليبة أحمد بن طولون بمساحة فدان وهدم المباني وسواى الأرض ثم شرع في البناء ، شارك في العمل بنفسه ومعه مماليكه ، لم يستخدم في البناء أحدا من المقيدين في السجون ولا أجبر الناس على العمل سخرة بدون أجر ، كما هى عادة أمراء الدولة !


أنشأ الجامع فى المبتدأ ، كان وقتها لم يتول الأتابكية بعد ويشغل وظيفة رأس نوبة النوب ، المسئول عن كل ما يختص بخدمة السلطان ومماليكه وتدريبهم ومعيشتهم ، وكذلك السلاحدارية وخاصكيته من الحرس ، وعند الانتهاء من بنائه شرع فى إقامة المدرسة ليس فى مبنى واحد كما يفعل الجميع سواء السلاطين أو الأمراء ، بل جعل كل مبنى منهما مستقلا عن الآخر وقائم بذاته ، على جانبى نفس الشارع فى مواجهة بعضهما.


أقام أعلى المدرسة دورين لسكن طلاب العلم الذين يدرسون ويقيمون فيها ورتب لهم المدرسين والنفقات اللازمة لمعيشتهم من المأكل والمشرب والكساوى ، أما صحن المدرسة الذى تقام فيه الصلاة فيحوي خلاوي الصوفية والخانقاة التى تخصهم والتى يقيمون فيها يأكلون ويشربون ويتعبدون ، وفي آخرها وعلى جانب منها بنى المقابر التي تخص شيوخهم ، ورتب شيخا وخطيبا وقراء ومؤذنين وخدما وبعض أرباب الوظائف للجامع والمدرسة ما بلغت نفقاته في الشهر ثلاثة آلاف وثلاثمائة درهم.


هذا اليوم من أيام الأسبوع المخصصة لأرباب الدولة للاجتماع بالسلطان في إيوان دار العدل بالقلعة ، الأمراء الكبار والقضاة الأربعة والأعيان ، الوقت مازال مبكرا والشمس فى بداية شروقها ، الهواء يأتى عبر الصحراء باردا كالثلج يلفح وجهه ويتخلل ملابسه ، لكن برغم هذا جو الصباح صحو يملأ النفس بالانشراح ، بعد قليل تتصدر شمس مصر الدافئة وجه السماء وتطرد البرد بعيدا ، صلى صلاة الصبح وتناول فطورا خفيفا ثم ارتدى زي الأتابكية المطرز بالذهب عند الأكمام وحواف الرقبة ووضع الحياصة الذهبية المرصعة بفصوص الجوهر حول خصره ، ثم ارتدى خلعه فاخرة بفرو سمور مبطنة بالحرير ، من الخلع التى أنعم بها السلطان عليه ، نزل درجات سلم قصره ليجد فرسه مشدودا بالسرج المطعم بالذهب والفضة والكنبوش الزركش المصنوع من المخمل والديباج يغطى ظهر الحصان تحته ، ومماليك حراسته وخدمته مصطفين على ظهور خيولهم في انتظار خروجه.


إنه الآن سيد هذا البلد الذى قدم إليه في يوم بعُد به الزمن صبيا صغيرا مأسورا ، الأمراء جميعهم تحت طاعته لا يشذ عنهم واحد ، لكنه يكبح جماح نفسه عن الغرور والتكبر ، يسيطر على الأمور بالسياسة والتعقل لا يلجأ للسيف وسفك الدم إلا لعقوبة تستوجب ذلك وليس لتصفية خصومة وأعداءه ، يكره الظلم ولا يحب أن يوصف به بين الناس ، تعلم من تجارب حياته وما مر به من حوادث وما رآه من صدامات دامية وحروب بين الأمراء والتى شارك فى بعضها مضطرا ، إن نهاية الظالم من الأمراء الذى يغتر بمنصبه وكثرة مماليكه وثرائه ويحتقر الناس ويتعالى عليهم .. مفزعة.


لا يمكن أن ينسى واقعة قوصون نائب السلطنة التى عاصرها فى شبابه المبكر ، انتهت إليه الرياسة وتدبير أمر المملكة والسلطان يومئذ طفل لا يملك من أمر نفسه شيئا ، فظلم وقتل وسفك دماءً كثيرة وغدر وخان عهودا ليمكن لنفسه ويستبد بالحكم ، وظن أن أيامه ستطول فى السلطة وأن أمامه سنوات يتمتع فيها بالعز والجاه ، بغير أن ينتبه أن خواص الناس وعوامهم كرهوه بسبب ظلمه وتجبره وسوء تدبيره ، وبرغم أنه لما حاول تدارك أمره بعد فوات الأوان ، أنفق أموالا لا تحصى ليستميل إليه قلوب الجند والقادة وفرق عليهم الإقطاعات والعطايا لكن لم يجده ذلك نفعا ، وانقلبت عليه الدنيا بأسرع من لمح البصر وانتهى أشنع نهاية.


يحرص أن يسوس الناس بالعدل حتى تسير أيامه فى سلام ويعم الرخاء البلاد ، يساعده في ذلك صديقة ورفيق عمره الأمير صُرغُتمش الذي يتولى منصب رأس نوبة النوب ، وكان معهما الأمير سيف الدين طاز حتى وقعت بينه وبين بعض الأمراء وحشة وحظ نفس ، لولا أن تدخل وحمى طاز وأمنه واتفق مع السلطان وجعله يعطيه ولاية حلب حتى يخرج من مصر وينتهي الخلاف ، يسيطر مع صرغمتش على مقاليد السلطة في البلاد ومعهما عدد من الأمراء الناصرية من زملائهم وخشداشيهم الذين اشتراهم السلطان الناصر محمد بن قلاون ، ونشأوا معا في نفس الطباق.


خير مصر كثير، الزرع والغلال والمحاصيل التي تجود بها الأراضي الخصبة وتغله المكوس والضرائب والجمارك من تجارة الشرق والغرب والكثير من الصناعات ، يتجمع من كل هذا مالا ينحصر من الأموال ليصب فى خزائن مصر والقلعة ! يعطى وينفق لكن بحساب وبغير إسراف ولا تبذير ويميل إلى اللين فى معاملته مع الناس ، لكنه مع هذا يعالج الأمور بما يليق من حزم ويحفظ مهابته ورياسته فلا تنفلت من بين يديه أحوال البلاد والرعية.


يلمح الأمراء من بعيد وهم قادمون بفرسانهم من شتى الجهات ، بعضهم وصل بالفعل ويقف راكبا فرسه عند باب السر في سور القلعة منتظرا قدومه، لا أحد منهم مسموح له بالطلوع إلى الإيوان قبله ، لا يتعجل ويترك فرسه يسير متمهلا نحو مقصده.