Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace

الروائي الكبير أشرف العشماوي يكتب: «في ذكرى نجيب محفوظ.. الأستاذ يعرف أكثر»

 كتب:  العاصمة
 
الروائي الكبير أشرف العشماوي يكتب: «في ذكرى نجيب محفوظ.. الأستاذ يعرف أكثر»
الروائي الكبير أشرف العشماوي
Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace

عندما خطوت أولى خطواتي بغرفته بمستشفى الشرطة، شعرت على الفور أنني أمام شخص مختلف، كان يبتسم بوهن وقد اعتدل برقدته مرحباً بي بمودة، عرّفت الأستاذ بنفسي ووظيفتي وسبب وجودي، فلمحت ضيقاً كطيف عابر على ملامحه سرعان ما طرده بلطف وهو يقول بعفوية: أنا الحقيقة معرفش اللي ضربني لكن أنا مسامحه على كل حال ومعنديش حاجة أضيفها!


هكذا وبمنتهى السماحة والرحمة كان الأستاذ نجيب محفوظ على استعداد لطي صفحة دامية من حياته والتى بدأت أولى سطورها منتصف أكتوبر من عام 1994، يومها علمت مثل غيري بخبر محاولة اغتياله ولم أكن أعرف بعد أبعاد وملابسات الحادث، وبالتالي لم يدر بخلدي على الإطلاق أنني سأكون أحد محققيه والذي سيسمع أقواله باعتباره المجني عليه، فلم تكن رواية «أولاد حارتنا» حديثة الصدور حتى نضعها على قائمة الدوافع لارتكاب الجريمة، فغرقت في حيرة مع زملائي بالنيابة وظن بعضنا أن مرتكب الحادث شخص مخبول ممن يهوون الشهرة على الطريقة الأمريكية.


يوم لقائي معه وكان قد مر على محاولة الاغتيال وقت كاف، ظللت أحدثه في أمور عادية وبدا لي أنه مسرور لعدم استجوابه، كان يكفي أن ألقي سؤالاً بسيطاً أو أفتح موضوعاً عاماً ليفضفض بتلقائية، تركت له المساحة ليتكلم وحده، فنحن في حضرة الأستاذ، وكان مجمل حديثه يدور حول قلقه على حال مجتمع ينزلق نحو هاوية التخلف والرجعية.




طال الحديث وتشعب، فى النهاية كان لابد من إجراء التحقيق وسماع أقواله لكن وقتها أخبرني الطبيب أن بقائي أكثر من ساعة معه يرهقه، فغادرت كما أتيت بأوراق بيضاء لم أدوّن فيها حرفاً. عدت لمكتبي وأجّلت التحقيق لبعد باكر .





في اليوم المحدد ذهبت بصحبة محقق وزميل أخر، تولي رئيس النيابة مهمة سؤال محفوظ عن متهمين لم يرهم الأستاذ ولا يعرفهم ولا حتى يريد تذكر ملابسات الحادث برمته، وتفرغت أنا لمراقبته وتأمل تعبيرات وجهه، وما بين التأثر والانفعال والحزن والمرارة وعمق النظرة والقراءة لحادث رأى أنه بداية لإرهاب قادم لا نهاية قريبة له إذا ما خفتت شمس التنوير وقد كان . قبل انصرافنا ظن نجيب محفوظ أنني رئيس المحققين مع إنني كنت أصغرهم، ويبدو أن الأمر قد اختلط عليه، فسألني باهتمام: همّ ليه ضربوني يا حضرة الوكيل ؟


كنت على يقين من أنه يعرف إجابة سؤاله وأن الأدباء والأصدقاء الذين التفوا حوله منذ اليوم الأول قد أخبروه بكل التفاصيل، حتى رئيس النيابة قالها له في التحقيقات ووقتها رفض الأستاذ بشدة أن تقرأ روايته من منظور ديني، لكنني لمحت بريقاً غريباً في عينيه كمن يريد أن يسمع أمراً مختلفاً أو لا يريد أن يصدق ما قيل له.


أجبته بما اعتقدت أنه سيريحه وقلت إن من حاول قتله فعل ذلك لإصلاح المجتمع. فسألني بنفس الاهتمام: وما وجهة نظره في ذلك؟ قلت بتحفظ: لأنهم يرون أن المجتمع لن ينصلح حاله إلا بقتل الكفار.


أجبت واعتذرت مقرراً أن تلك العبارة وردت بأقوال المتهم الذي كنت أستجوبه، فابتسم بمودة طالباً ألا أعتذر ثم فاجأني سائلاً: أنا أعلم أنهم لم يقرأوا الرواية لكن أريد معرفة ما إذا كانوا قد قرأوا غيرها.


أسقط في يدي فأنا أخفيت عنه أنهم لا يعرفون القراءة حتى لا أزيده آلما لرقة مشاعره، فأجبته بأنني غير متذكر، لم ييأس نجيب محفوظ واستأذن منا أن نسمح له بإهداء المتهمين بعض كتبه، وفسر دهشتنا من رد فعله على أنها موافقة منا، وطلب من زوجته إحضار ثلاث روايات من منزله الملاصق للمستشفى، إحداها كانت بداية ونهاية والثانية اللص والكلاب ولا أتذكر الثالثة وأظنها الحرافيش، يومها أملى الأستاذ الإهداء ولم يستطع الإمساك بالقلم ليوقع، فكتب ووقع بدلا منه الناقد رجاء النقاش الذي تصادف وجوده وقتها.


فى نهاية اللقاء صافحني بحرارة قائلا بجدية: لابد وأن أحدهم يقرأ. فأومأت بالإيجاب. عدت لمكتبي وقرأت الإهداء ،شعرت بعظمة الرجل وازداد انبهاري به ووجدت أن من واجبي تحريز الروايات المهداة على ذمة القضية لتكون تحت بصر القاضي الذي سينظر القضية بالمحكمة لتشكل وجدانه وتريح ضميره، ويرى بوضوح الفرق بين العالم والجاهل، بين الأديب المبدع المتسامح والهمجي صاحب الأفكار الرجعية المتخلفة ، بين من يريد إعادتنا قرونًا للوراء ومن يريد إصلاحاً حقيقياً، يومها أملى أستاذنا الكبير على رجاء النقاش جملة الاهداء حسبما دونت بأوراقي الخاصة :


"إلى من يخالفني الرأي أهدي سطورًا كتبتها لمصلحة مجتمع لن ينصلح حاله إلا بالثقافة"


أدركت وقتها أن الأستاذ الذي ظل يلح عليّ لمعرفة الدوافع كان يعرف أكثر، ولخص الدواء للداء في جملة جامعة مانعة وصمم على استكمال رسالته باهداء كتبه لمن كفروه ،لكننا فيما يبدو لم نستمع جيداً لنصيحة نجيب محفوظ ، فلم ينصلح حالنا من يومها.

______________________________

نقلاً عن الصفحة الرسمية للكاتب الكبير المستشار أشرف العشماوي.