Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace

الشاعر الكبير أحمد الشهاوي يكتب: «لا أحد سيتضرَّر من كِتَاب»

 كتب:  العاصمة
 
الشاعر الكبير أحمد الشهاوي يكتب: «لا أحد سيتضرَّر من كِتَاب»
الشاعر الكبير أحمد الشهاوي
Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace
Elasimah AdPlace

ما نوع الأذى الذي يسببه كتابٌ ما، لشخصٍ ما قرأه؟


لا أحد سيتضرر من كتاب، هو في الأساس ليس منافيًا للدين أو الأخلاق.

والدين الذى يخشى المؤمنون به أن يضعف أو يزُول بسبب كتاب، ليس دينًا سماويًّا مُنزَّلا، وإنما هو من وضع بشرٍ، ويخاف من وضعه أن يتأثر دينه؛ فيتركه من آمن به ذاهبًا إلى ديانةٍ أخرى.

ومن لم يرُق له كتاب، أو من لم يعجبه تأويل أو اجتهاد لكاتب، عليه أن يتركه جانبًا ويذهب، من دون أن يقاضي الكاتب، أو يُخرجه من الملة، أويرميه بالكفر أوالزندقة أو الهرطقة، والتهم كثيرة، وقاموس مفردات الكفر ازدحم ، ولا يمكن له أن ينفد يومًا ؛ من فرط امتلائه كل يومٍ بالجديد من التهم ، ومبتكرات صياغاتها .


وأرى دائمًا أن العلاقة بين الإبداع والسلطة، هي علاقة حادة لا هوادة فيها، خُصوصًا أن الكتب الإصلاحية عبر التاريخ دائمًا ما تكون منبُوذة وممنُوعة ويُحاكم أصحابها، وتنتهي محاكماتهم بالسَّجن أو القتل، هذا إنْ لم يتم قتلهم غِيلةً ، خصوصًا في بلداننا ، التي هي محمولة على يد التشدُّد والتزمُّت ، وتسعى تحت اللافتة المُخادعة : تنظيم الطباعة والنشر أن تحكم قبضتها ، وتمارس استبدادها ، فارضةً سياسة وثقافة الصوت الفرد الأوحد .


ولو طال الحكام ورجال الدين معًا، أن يُخضِعُوا كل ورقة تخرج من المطابع للرقابة لفعلوا.


ففي الوقت الذي يوسِّع العالم من حرية عالم النشر لديه، وكذا تداول الكتب، نُضيِّق نحن عليها في بلداننا، كأننا نقلِّد أوروبا في عصُور ظلامها السابقة، حيث كانت الكنيسة تحكم وتسيطر، وتصدر القوانين الجائرة في حق الكاتب والكتاب والناشر معًا، وتمنع مرُور الكتب ، مُمَارِسةً الرقابة الشديدة على كل ما تنتجه المطابع من كُتب.


لأن الفقيه والسلطان في بلداننا ما زالا يتصوَّران أن المنع والقمع والحذف والإقصاء سيوطِّد جهات الأرض من تحتهما، وسيكونان في مأمنٍ من الشرور والآثام والمكايد التي يمارسها المحكُومون، وهما يحكمان بشكلٍ مُستبدٍّ مطلق .


كأن الفقيه يطمح أن يكون هناك تصريحٌ قبل إصدار أي كتاب، فيما يشبه محاكم التفتيش الأوروبية السابقة، التي كانت تفتِّش الضمائر والنوايا قبل أن تفتِّش الأوراق، وأن يُكتب على غلاف كل كتابٍ: نال موافقة الأزهر، أو اعتمده الشيخ فلان وصار قابلا للنشر والتداول، أو يُنشر بإجماع أعضاء مجمع البحوث الإسلامية، أو حاز رضا الباب العالي للأزهر، أو رُوجع واعتُمد وتم الترخيص بنشره من السلطة الدينية، أو نُظِر ، أو تمَّت إجازته ، إلى آخره من الصياغات المُكرَّرة أو التقليدية أو حتى المُبتكَرة حديثًا.

وكلها تعود إلى ما يزيد على خمسمئة سنة، لمَّا كانت الكنيسة لها اليد العليا على الكُتب والنشر بالاتفاق والتنسيق مع من يحكمُون الدول والإمبراطوريات ، وكم من كُتَّابٍ سُجنوا وقُتلوا والقائمة أطول من أن يسعها كتابٌ ، وها نحن بدلا من أن نكون أحرارًا مُتقدمين، نحِنُّ إلى ما تخلَّت عنه أوروبا، ونرى محاولات متجرئةً وجاهلةً صادرةً ممن هم دُعاة الأمية الثقافية، ودُعاة الفقر المعرفي، والتصحُّر القرائي، للنيل من الكاتب وكتابه، مُتحجِّجين بأنهم يدافعون عن الدين، مع أن الله في سماه لا يطلب دعمًا أرضيًّا من أحد ، ولا يحتاج دفاعًا من جاهلين أو عارفين.


يحلم الفقيه ( الذي يتصوَّر أنه يمتلك صكَّ السيادة ) مُتعاونًا مع أية سلطةٍ قمعية، أن يمشي في أسواق مُقتحمًا كل مكتبة عامة أو خاصة، حارقًا ومُصادٍرًا ومانعًا وساجنًا ومُهدِّدًا بالموت من يشاء، وعاقدًا محاكمه المقدسة ، مثلما كان الأساقفة ومفتشو الشرطة يفعلون في الزمن الأوروبي القديم .


فالكاتب لا يحتاج إلى مُراجعة ما يكتب، أو أية مُراقبة باسم الدين، لأنه قد يعرف الدين أكثر من الفقيه نفسه ، ذلك الفقيه الذي صار يعترض بل ويكفِّر أمثاله من الفقهاء الذين يراهم مُختلفين معه فكريًّا ، حيث يُحوِّل الاختلاف إلى خلافٍ ، وهنا تحلُّ الكارثة ، والأسماء الأزهرية التي كُفِّرت على مدار مئة عامٍ أكثر من أن تُحصى ، وفي مقدمتها طه حُسيْن ومحمد عبده وعلي عبد الرازق، ...


فلا أحد يتمنَّى منا أن نعيد محارق الكُتب إلى المشهد، إذْ كفانا استعارةً من التاريخ الدموي للأسلاف.


لكن الشيخ والسلطان كليهما يتوجَّس من الكِتَاب ، ومن ثم لا يعود هناك إمكانية لحرية البحث العلمي ، ولا ضرورة إلى اجتهادٍ أو تأويلٍ ، حتى ولو كانت صادرةً عن أكبر العقُول ، وأكثرهم تنويرًا وفقهًا في العلم، حتى أننا رأينا من يقول: " ليست هناك حاجة إلى القراءة كثيرًا، ..." ، أو تمنع الإناث من قراءة الكتب؛ لأن عقلها لن يستوعبها، وخشية أن تفهمها غلطًا، غير مهتمين بتربية العقل، وصقل الرُّوح، وتهذيب النفس، وترويض طبيعة الإنسان، حتى باتت كل دولةٍ من الدول العربية، لديها قوائم بالكتب الممنُوعة والمُحظور تداولها في المكتبات.

وتختلف كل قائمة في هذه الدول حسب درجة التشدُّد وضيق الأفق والحظْر والمنع ، إلى الدرجة التي رأينا كتبًا تصدر تحت موضوع : الكتب التي حظر قراءتها فقهاء الإسلام ، وهو أمر مُخجل ومُزرٍ ومثير حقًّا للشفقة ، وتجاوز للمعقُول ، وليس الهدف منه الحفاظ على الدين ، ولا حماية الأخلاق ، بل هو أمر ينبىء عن أننا أمة ستبقى في تخلفها وجهلها طويلا ، ولن تنهض إلا بحرية البحث والتعبير والاجتهاد من دُون شُروطٍ أو قيود ، أو رقابات على العقل .


فنحن نذهب إلى ما تخلَّت عنه أوروبا قبل خمسمئة سنة، ونطبِّقه بحذافيره، حيث كانت الكتب الممنوعة والمحظور بيعها وقتذاك مرتَّبةً طبقًا للحروف الأبجدية.


وما منعته أوروبا من كتبٍ، صار مُتاحًا ومُترجمًا إلى كل لغات الأرض ومن بينها العربية ، وهناك قائمة طويلة بالكتب الأوروبية التي حظرتها السلطات السياسية والدينية في أوروبا ، وباتت بين أيدي الناس ، وتُباع علنًا في معارض الكتب ، بعد أن كانت محظورة أو تباع سرًّا ، أو تمت مُصادرتها أو أحرقت نسخ منها .


وما نتيجة الاستبداد بشتَّى صوره إلا تكريس للجهل، وتفشِّيه بين الناس، وترك آثار سلبية سيئة لسنواتٍ طويلة على نفوس الناس وأرواحهم ، وتغييبهم عن المعرفة بالذات والآخر، لأن من يمنع - هو في الحقيقة - يمارس القتل باحترافٍ؛ لأنه جاهل مُعتَّق .


وكم من كتبٍ سقطت تحت سنابك خُيول الجهل الجامحة، وضاعت، ولم تصل إلينا، ولعل محارق الكُتب، أو رمي الكتب في الأنهار والبحار ، لهو أكبر دليل على استبداد السلطان ، ومن بعده أو معه مُؤازرًا ذلك الفقيه أو الأب أو القسيس ، حتى صار التحرُّر من الجهل والأمية من أسمى الآمال والأماني في الحياة.

________________________

نقلا عن الصفحة الشخصية للكاتب والشاعر الكبير أحمد الشهاوي